رغبات.. بين الموضوع والتشبيه والكناية

الدكتورة سفانة شعبان الصافي.

لم يكن امامي وانا اقرأ الاهداء الذي خصني به القاص والروائي أسامة محمد صادق بروايته الموسومة (رغبات ) والذي انهاه بالقول : (اتمنى ان اجد القبول عندك) الا ان اضعها ضمن اولوياتي واباشر بعد الانتهاء منها في تدوين اهم الاشياء التي استوقفتني اثناء القراءة  وقد لخصتها بالتالي :
1- عتبة العنوان ومدى ملائمتها لما احتوت الرواية من رغبات اختلجت بطلة الرواية  (هالة)  والتي رافقتها الى نهاية المطاف , بعد ان اخذت بزمام الامور وفكت تلك الطلاسم والرموز التي تركت فيها اثراً واضحاً وجرحاَ عميقاَ اندمل وانمحى اثره بعد ان وقعت على حلولها.
2- موضوع الرواية يخص كل انسان مهما اختلفت الرموز لهذه الرواية ومسمياتها الا اننا نجد ان هنالك من كان يترك اثرا واسئلة لأجوبة كنا بحاجة اليها لكننا عرفناها حين كبرنا , ووقعنا على مفرداتها الصحيحة بصورة اوضح وادق.
3- اسلوب القاص يتميز بانه اسلوب سهل ممتنع بسيط , يتمتع بألفاظ جميلة ذات ايقاعات وجرسٍ خاص , فضلاَ عن الفاظه المميزة والتي تنوعت بين المرادفة والمتضادة , فضلا عن انها لم تخرج عن قواعد اللغة ومفرداتها .
4-التنوع في الالفاظ , هذا إن دل على شيء فإنما يدل على تمكن القاص  من اللغة والتعرف على اصول هذه الالفاظ فضلا عن امتلاكه للكثير من المفردات التي تعدُ ذخراً للقارئ.
5-ان للقاص ثقافة عالية بالمدن والبلدان فضلاً عن اللغة العربية وقواعدها وهذا الاضطلاع الواسع والثقافة المتمكنة ساعدت الروائي كثيراً في توضيح الاشياء وايصالها بالصورة الصحيحة الى ذهن القارئ كما في قوله:(اكمل حديثة عن قرية الجبايش) التابعة لمحافظة ذي قار وما تمتاز به كونها تقع على صفحة ماء الهور )[1] وقوله:(وتدعى صريفة وهي منحدره من كلمة (صرياثا) الارمية التي تعني الكوخ التي انحدر منها اسم مينة البصرة )[2] وغيرها من المعلومات الجديرة بالاهتمام والمتابعة , وهذا في تقديري انما لأنه كان عسكريا ً, ومن طبيعة الضابط ان يتنقل بين المدن والبلدان لطبيعة عمله.
6-  التنوع في الاساليب , فحينا كان بأسلوب خبري واخرى بأسلوب انشائي بين الطلبي وغير الطلبي فضلا ً عن ان يكون استفهاميا ً او امرا ً او نهياً او نداءً وهكذا فإننا نجد التنوع في اساليب البلاغة العربية ,ومن الممكن ان تكون هذه الرواية محل اهتمام الدارسين والراغبين باستخراج هذه الاساليب .
7- استخدامه للكناية في اماكن متعددة من الرواية , فكان يبدع فيها ويجيد استخدامها بصورة الصحيحة , كقوله :- (اذا بدأت استطيع النظر الى قامتي في المرأة الملتصقة بخزانة امي دون ان ينقطع منه او على الاقل الاجزاء المثيرة)[3] فهذه الكناية عن البلوغ ,     فالقاص لم يستخدم الاسلوب المباشر الصريح الذي يركز فيه انها بلغت كذا من العمر الذي  نستطيع من خلاله تحديد شكل الجسم في ذلك العمر , إلا انه  فضل التعبير عن ذلك بصورة اخرى جميلة .
8- البراعة في اسلوب التشبيه فكان يتخير اعذب الصور وادق الاشياء في تشبيهاته , فحين كانت تتكامل لديه كل عناصر التشبيه من وحين اخر يقتضيه  ذكاؤه ومنهجيته  في حذف احد عناصر التشبيه كما في قوله :(غير ان ابتسامته تبدو كقارب صغير في بحر توشك الشمس ان تختفي خلفيه )2
وقوله :(ينقل لنا صور الارض بثقوب كبيرة وكثيرة كأنها في كوكب اخر , النخيل بجذوع كقامات البشر لكنه مقطوعه الرؤوس)3
فضلا عن كل ذلك التشبيه والكلام هو كناية  عن صور من المعركة التي طالما نقلها لنا التلفاز في تلك الحقبة من الزمن
9- في استخدامه للتشبيه كان يبدع ويتفنن في استخدام التشبيهات المختلفة للمشبه نفسه , كما في قوله (في حين كان يقاطعها والدي تارة بصوت زئير الاسد وتارة بفحيح الثعابين وتارة اخرى بهديل الحمام )[4]
فعبر عن كل الانفعالات المختلفة بالوان عديدة فهو يعبر عن العصبية  والشدة بزئير الاسد ويتأفف ويتأوه مشبها  ذلك بفحيح الثعابين فضلا عن الحزن والحنان والرقة في صوت الحمامة وهذه كتابات مختلفة لمشاعر الاب ذلك الوقت .
10- من تشبيهاته التي استوقفتني  كثيراً, لأحلل تلك الصورة الجميلة اذ انها فضلا عن التشبيه فان فن الاستعارة والكناية ما قد أبدع المؤلف فيها , بقوله (واذا بها تميط الدثار عن جسدها , وتقف كشجره توت لا رداء لها لتشرع بأقذع النعوت)[5] وهو تعبير عن معنى واحد وهو ان اخلاص قامت من فراشها لتقص  لها حكاية امسها البعيد القريب لكنه فضل اساليب جديده ومتنوعة ليتحدث عن ذلك المعنى .
11-الحديث عن مشاعر مختلفة متضادة , وقد ابدع في الوصف لها كما في (وراح يكبر حتى بات جبلا لا يمكن تسويته بكل جرارات العالم )[6]هذا الشعور بالعين العاطفي لإخلاص منعها من النوم , وراح حديثها المأزوم يأخذ ابعاداً من الصمت , والذهول , وقرارات بلا صدى وغير ناضجه تحتاج الى مزيد من التفكير .
12- تشبيهه اخر جميل في قوله :(انها الان امام نزوة ولدت معها واصبحت بتطور عمرها كجبل  وعر لا يمكن قهره الا بوطيء قمته تحت الاقدام)[7]
فقد شبه النزوة بـ (جبل) وهو المشبه به , اما اداة التشبيه فهي( الكاف ) في قوله (كجبل) اما وجه التشبيه  فهو (وعر) فهذه النزوة تشبه الجبل في وعورته التي لا يمكن قهرها  الا بوطيء قمته تحت الاقدام . وكذلك قوله: (وراح يسقط الاناث والمشبه به التفاح وانما اختار التفاح هنا لجماله الذي شبه النساء به ، واداة التشبيه (الكاف ايضا)  اما وجه الشبه فهو السقوط بفعل الجاذبية فضلا عن انها ذكر لنا قانونين لهما , قانون الجاذبية , والاخر قانون الطبيعة وهو المد والجزر , وفي كل هذا فأن الروائي  كان عالما ومدركا لقواعد هذه القوانين وذلك وضعها تحديداً . فكان بارع في كل ذلك .
13- كان متمكنا جدا في وصف صوره قارئة الفنجان وحركاتها كأننا نقف امام صورة حقيقة , يقول :(ادعت بقدرتها على قراءة الفنجان شرط ان يلتزم , ويشربه بقلب خالص , وبنية صافية , وتكون سريرته متجهة الى الغرض بقصد النية التي ينوي عليها على ان يؤمن بان العلم كله بأمر الله ثم يشرب الفنجان ,ويتنفس شهيقاً وزفيراً مع كل رشفة ثم يبقى على الربع الاخير من البن في قاع الفنجان ويقوم برجه , الى ان يمتزج ببعضه ويصير كالسائل ثم يقلبها على الطبق , ويتركه حتى يصفي التفل الزائد وبعدها بخمس دقائق ستشرع بقراءتها )[8]
14-اما في وصف هالة لبطلها – الذي هو بطل الرواية – فقد ابدع ذلك الشخص بالصورة باختيارها للألفاظ , يقول ( كان ذا سحنة تميل الى السمرة بعض الشيء وجسدها ممتلئ , والمسافة ما بين الخدين متقاربه تعطي انطباعها بانه وقور , ورجل متزن وغير عدواني , في حين ظل شاربه خفيفا امتنع عن النمو )2
القاص ذكر لنا صورة ذلك الشخص مع ذكر صفات متنوعة وكثيره وقد ابدع واجاد في ذلك .
15- عند قراءتي للرواية الممتعة جدا اكثر شيء شدني فيها هو ذلك التأصيل لبلدي وتلك الصور الجميلة التي عاشت وستعيش ابدا فينا فكل ما قيل في هذه الرواية من صور ومعاني كنا احد ابطالها،  فصورة ذلك البطل الذي يرتدي تلك البدلة العسكرية التي كانت حلم كل فتاة  لما تحمل هذه البدلة من معاني وقيم اصيلة وجميلة , فضلا عن صور سارية العلم والعلم نفسه , ومراسيم رفع العلم ووصف لتلك المراسيم ، وطالبات الكشافة , كل تلك المعاني التي نحملها معنا وكنا ذات يوم احد مفرداتها جعل كل ذلك جعل من الرواية ان ترتقي لتكون في الصف الاول من الابداع والتألق. واخيرا اقول لكاتبها
دمت لنا ذخرا ودام ذلك الابداع لنا ليسطر لنا صور اخر جميلة ومتألقة كما عهدناك في هذه الرواية , ومن تألق وابداع الى اخر اكثر منه واجل واعظم .




. رغبات :43[1]
. نفسه 43[2]
. نفسه :17[3]
. رغبات:17[4]
. نفسه :12[5]
. رغبات : 125[6]
. رغبات : 52[7]
. رغبات :132-133[8]

تعليقات