صور الإجلاء والنزح والتهجير من تاريــــخ كفاح تكريت الداثر المرير
ابراهيم فاضل الناصري...مؤرخ وباحث

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ان (النزوح ) هو ترك الناس لمنطقتها عنوة وجبرا لتذهب الى أمكنة آخر. وان (الهجرة ) هي ذات النزوح ولكن من منظور بلد اخر اي ان وجهة الناس في التهجير هي ليست ضمن نفس البلد انما تتعدى ذلك الى بلدان اخر. واحيانا تسمى حركة الإنسان هذه المفروضة عليه جبرا او عنوة بشكليها المذكورين : (الجلاء) وحقيقة هنالك العديد من الأسباب القاهرة والطارئة من التي قد تؤدى الى النزوح او الهجرة اي الجلاء وتفرض حصولهم. كأن تكون أسباب سياسية أو اقتصادية او طبيعية ، أو حربية والاخيرة هي شاغلنا الشاغل اليوم.
ان في (الجلاء) من جراء الحروب والغزوات والعدوانات ينزح الناس من مناطقهم ويهجروها مرغمين مقهورين ، نحو مناطق جديدة أو دول جديدة وهم يأملون في العثور على السلام أو الخلاص او النجاة اي السعي من اجل البقاء. وعلى مر الحقب كان يعد هذا النوع من التحرك السكاني (الجلاء) مظهرا هاما من بانوراما تاريخ البشرية المهول والقاهر والغاص بالحوادث والاحداث التعسفية. وكان من نتائج الحملات او الغزوات او الحروب الكبرى او العدوانات في تاريخ الصراع البشري ان ولد تحولات كبيرة ومنعطفات حادة، من بينها تأتي التغيرات الديموغرافية الحاصلة عن الترحيل او التهجير او الاجلاء لسكان المناطق المستهدفة وفرض توطنهم في مناطق اخر واحيانا جلب سكانا آخرين ليحلو محلهم مما يؤدي الى حصول ذلك التغير الديمغرافي المتعسف، ولعل من دواعي انتهاج هكذا امر هو الانطلاق من مبدأ القوة وبسط النفوذ واشعار الطرف الخاسر وهو سكان المدن المستهدفة بالهزيمة والانكسار المعنوي، والامعان في ازالة معالم شخصية مجتمعات تلك المدن وخصوصياتها وطمس مقوماتها وعناصر هويتها واكسابها صبغة جديدة ، تمهيدا وتهيئة نفسية لتقبلها واقعا جديدا مفروضا.
ان تكريت المدينة التاريخية ذات السفر الحضري التليد والكبير كان قد عرف سفر مجتمعها الطويل هكذا ظواهر ظالمة اكثر من مرة اي ان سكانها وعلى مدى تاريخها الذي يمتد الى فجر الازل للحضارة كانوا قد عرفوا التهجير او الاجلاء او النزوح من اثر الغزوات الطامعة ومن تاثير الحروب الظالمة والعدوانات الحاقدة مرارا ولقد عانت من نتائج تلك الظواهر كثيرا وتعرضت كمجتمع الى اشد وامر صور الاهوال والمأسي والفواجع. كما وتعرضت كمدينة الى اعتى صور التدمير والهجر والخراب والهدم. وان من بين تجارب التهجير او النزوح او الاجلاء المريرة والقاهرة التي كانت قد عرفتها تكريت بشعبها عبر حقب وفترات ماضيها :
1. يذكر لنا التاريخ كيف ان مجتمع تكريت المتمثل بقبائل الاتوعايا الارامية قد تعرض الى الحيف والقهر من قبل الميديين في فترة من فترات الزمن الاشوري مما اضطرهم واجبرهم الى الجلاء عن منطقتهم (تكريت) الى الشرق البعيد وحلولهم حينا من الدهر في هضبة جرمق العيلامية وعندما زال هذا الحيف والقهر عادوا الى تكريت حاملين معهم اسم منطقة نزولهم لهذا صاروا يتسمون بعد عودتهم بالجرامقة.
2. ويذكر لنا التاريخ كيف ان شابور الثاني وبعد ان وجد أنّ سياسة الاضطهاد لم تعد تُجدِي نفعاً مع عرب تكريت من تغلب واياد لترويضهم، عزم على ترحيل الثائرين عليه والمناهضين له منهم الى الشرق البعيد، ولقد حقق ذلك فاجلى جمع غفير من هذه الاسر الى شرق الامبراطورية واغلب الظن أنّ جالية كبيرة منهم كانت قد حلت في جورجيا حيث ان جورجيا كانت قد سميت على اسم قديس نصراني اصله تكريتي اسمه جورجي كان قد اعدم من قبل شابور لكونه كان يناويء ديانة الفرس ويدعوا الى ديانة المسيح وان الذي رسخ اسمه وخلده في وجدان شعب جورجيا منذ ذلك الحين هم النازحون اليها من التكارتة من تغلب واياد جراء جلاء شابور هذا كما واغلب الظن ايضا ان هنالك من التغالبة والاياديين من التكارتة من نزح جراء سياسة شابور هذه الى الهند حيث ان الهند سبق وأنّ بشّر فيها الحواري مار توما الرسول والذي هو كان قد عرج الى الهند من تكريت وحتما انه كان قد اسس للتكارتة فيما بعد الظرف الملائم لاختيارها كمكان للنزوح او الجلاء.
3. ويذكر لنا التاريخ كيف أن كسرى انو شيروان قد اجلى بنو اياد من تكريت الى شمال الامبرطورية اذ انه ونتيجة لتبرمه منهم كان قد أخرجهم من ارض تكريت إلى بلاد الروم فنزل قسما منهم بأنقرة ونزل قسما اخر في رومانيا ، وكان رئيسهم في ذلك الحين كعب بن مامة.
4. ويذكر لنا التاريخ كيف ان المملوك بهروز حاكم بغداد كان قد اجلى العائلة الايوبية التي ينحدر منها القائد الفذ صلاح الدين الايوبي اجلاها والى الابد من تكريت قسرا وظلما نحو الموصل ومنها الى بعلبك في مبتدأ النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي.
5. ويذكر لنا التاريخ كيف ان المتغلب الباطني كيقباذ بن هزارسب من الديالمة قد احتل تكريت في العقد الثامن من القرن الخامس الهجري وبات ينهبها ويظلم اهلها مما اضطر الكثير من اسرها للجلاء والنزوح منها كمدا وقسرا.
6. ويذكر لنا التاريخ ان عوائل واسر عريقة من تكريت من التي كانت تمتهن التجارة والعلم وتشتهر وتضلع بهما في العصر العباسي الاخير قد اضطرتها اهوال ومآسي غزو المغول لتكريت الى الجلاء عنها قسرا نحو الشام ثم خرج منها بعضهم نحو القاهرة ثم الاسكندرية وحلوا هنالك واستأنفوا نشاطاتهم التجارية والعلمية والادارية فيها واسسوا لهم وجودا ونفوذا وصيتا جديدا فيها. وان من بين تلك الاسر اذكر بيت الكويك وبيت الكارم اللذان حلا بمصر وبيت المهاجر وبيت المفرج وبيت درع التي حلت بالشام.
7. ويذكر لنا التاريخ كيف ان اسرا وعوائل من تكريت كانت قد نزحت قسرا الى الشام والى مصر ابان الغزو التتري لتكريت بقيادة تيمورلنك الباغي وكان من بينها عوائل تقرب بالنسب لتلك العوائل التي سبق نزوحها.ولعل من بين تلك العوائل هي التي باتت تشكل اليوم سكان ناحية (تكريت) في عكار لبنان.
8. ويذكر لنا التاريخ كيف ان عوائل تكريت قد اضطرت تحت تسلط السيف الصفوي في الربع الاول من القرن السابع عشر الميلادي الى الجلاء الى مناطق غرب العراق وشمال شرق سوريا.
9. ويذكر لنا التاريخ كيف ان هالي تكريت قاطبة كانوا قد اضطروا للجلاء عن مدينتهم الى مدن غربي العراق وشماله الغربي ابان غزو نادرشاه قلي خان الايراني لتكريت في عام 1745م واعماله السيف والمعول فيها ولم يعودوا الا بعد تطهيرها في نفس العام .
10. ويذكر لنا التاريخ كيف ان حيا من تكريت متمثلا ببيكات البوناصر قد اضطروا تحت نير قوات احد الولاة العثمانيين ونيران اسلحتها القاهرة الى الجلاء القسري نحو الشمال وحلولهم حينا من الزمن في ديار الاكراد .ولقد سميت الحادثة التي سببت جلاؤهم وسبقته بدقة البيكات.
*** وسيذكر لنا التاريخ في قابل السنين كيف اجلي وهجر اهلنا من تكريت ظلما وقهرا وقسرا في منتصف العقد الثاني من الالفية الثالثة للميلاد وكيف لاقوا من جراء ذلك اعتى الاهوال وعانوا اقسى وامر الاحوال.
تعليقات
إرسال تعليق