قراءة في مجموعة بريد الأب ...فرج ياسين


قراءة في مجموعة  بريد الأب ...فرج ياسين
أسامة محمد صادق

يقال إن الحياة في نظر الجائع رغيف خبز، وفي نظر الفيلسوف، مهزلة، وفي نظر الفنان مسرح ،وفي نظر الطفلة الصغيرة: لعب ،ولهو،  وفي نظر المرأة زواج .
في حين أن الحياة في نظر فرج ياسين هرم كبير يجب أن يملئ بالقصص التي يعيشها ثم يكتبها ...لتكون جديرة بالخلود...
أنه يعتبرها ابتسامة الشمس ، واستراحة الربيع ، وجمال الطبيعة وسكون البحيرة ، وهو الاعتبار ذاته الذي سبقه (جوته) وراح يرتشفها حتى الثمالة ..
هكذا هو فرج ياسين متعدداً ، ومتنوعاً كثيف كالسحب حافل بالجد والمثابرة ، حريص أن لا يترك أي مفردة مهما كانت صغيرة في حياته إلا ويترجمها بقصة أو ابتسامة ؛يصغي مهما كانت نوعية وحجم الثقافة عند الآخر صغيراً كان أو كبيراً ..
أنه مضيئ كالنجوم في ليالي الشتاء الصاخبة ، وهو ميدان وحلبة سباق في آن واحد ..
وأني اذ أحاول اليوم أن اكتب عن هذا الرجل المتخم بالتواضع والبساطة والحب فأجد ان البداية تكمن في مجموعته القصصية الأخيرة (بريد الأب )الصادرة عن دار الروسم للصحافة والنشر والتوزيع لعام 2014
والتي حملت بين طيات أوراقها الأنيقة (أحدا وعشرون ) قصة متنوعة منها (احدى عشرة قصة قصيرة ) وعشر قصص قصيرة جدا سأتناول قصة (قمم المرعب الفسيح) وهي واحدة من اهم ما كتبه القاص فرج ياسين ، باعتقادي كونها الأكثر جرأة ووضوحا ً وان القاص كتبها حين كان ذل الأمريكي البغيض قابعا على صدورنا ساخناً كالجراح ، مصرين في ان يغيروا مفاهيم الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة والتي عاشت معنا طويلاً لنجدها و أنفسنا في دائرة النار ..
القصة ملخصها أنها تتحدث عن جندي أمريكي مهجن يدعى (رود ملفل ) من أوكلاهوما : أمتثل لإغراءات التطوع للقتال في العراق وبعد عاميين عاد وهو يحمل ندوباً في جبهته وعارضيه ويعاني عرجاً خفيفاً في ساقه اليسرى وبعد انقضاء ثلاثة أعوام على عودته من العراق بات متورطاً في حبائل وسواس يومي لا يكاد يجد له مخرجاً ومع أنها حادثة صغيرة عابرة إلا ان الراوي ركز عليها من  خلال صديقة (رود) (كلير ) التي بذلت كل ما في وسعها من أجل تخطيه لأزمة التذكر وأن زميلاه في العمل نصحاه بعرض حالته على طبيب نفسي إلا إنه كان يرفض ويستمتع بذكر حادثة مرت به في العراق وعلقت في ذاكرته وجعلت تنسج شباكها في وجدانه ؟
لذا قرر ودون استشارة أحد أن يبعث رسالة إلى الرئيس باراك أوباما يروي له حكاية تلك اللحظة ..
وانه لا يدري على وجه الدقة لماذا ارتفع اختياره لقبة البيت الأبيض ..
الرسالة تقول انه في صباح خريفي قامت قوة مؤلفة من بضعة جنود بمهمة استطلاعية في قرية تقع شمال تكريت والمهمة لم تكن لديها أي مخطط عدائي بل على العكس انهم قرروا زيارة احد تلك المنازل الفقيرة ليأنسو بقاطنيه ويخضعوا بمقابلة ودية تنتهي برغبة نزيه في الحصول على دعوة إلى قدح شاي أو كأس من نقيع المشمش المحلى ...
الرسالة تؤكد على ان الجنود كانوا في لحظة مرحة وان دار المنزل خضع لطرق خفيف وناعم ...
وبعد هنيه فتح الباب وأطلت صبية بدا كما يصفها الراوي (كأن ملاك الرب المنوطة به مهمة إسباغ شفرة الجمال الإلهية هو من اعد زينتها ...صبية لا يزيد عمرها عن السادسة أو السابعة عشر وانه لم يرى في أوكلاهوما بمثل أشرافها وروائها ...
ومع أن اقرب الجنود كان يقف على بعد مترين وان القوة لم تشهر أسلحتها او تصدر حركة وقائية من أي نوع بل على العكس .
يقول البطل في رسالتها لرئيس (رحنا نصطنع ابتسامات شبابية خفيفة حومّت حول محيا كل واحد منا ..لكنها حصبتنا بنظرة احتقار مريعة ، وشاهدت وجهها وهو يتقبض ويتلون ويتفصد عرقاً ، وكفيها وهما تهويان إلى بطنها وجذعها وهو ينحني وفجأة كفت عن معاينتنا وانكفأت جاثية على ركبتها ، وراحت تقئ قاءت لمجرد رؤية وجوهنا يا سيدي الرئيس !

هكذا انتهت القصة .
قيئ الصبية الذي لم يتعد حدوده الزمانية لثواني حملت الجندي (رود ملفل ) أن يقع في حبائل ووسواس يومي لم يجد له مخرجاً بعد انقضاء ثلاثة أعوام على عودته من العراق وانه فضل ان يراسل الرئيس ليجد تفسيراً لذلك الدرس الغرائبي وان ينحي جانبا مراجعة اي طبيب نفسي لاعتقاده ان الوسواس لا يحتاج إلى عقاقير او مسكنات بل يحتاج إلى توضيح تلك المعتقدات التي دأبت على ترسيخها المكننة الدعائية الأمريكية بأن جيشها في العراق سيستقبل بالورود ، والحلوى،  وليس بنظرة الاحتقار المريعة التي منيت بها قوتهم مع بركة قيئ  الصبية بدون إرادة حال رؤيتهم ..
الراوي من خلال هذه القصة أراد ان يعمم برقية واضحة وجلية ان حادثة الصبية كشفت ودون تزييف كيف واجه العراقيون حقائق الاحتلال بشجاعة وأعطت صورة لرؤية الواقع ليس كما يرغب الغاصب بل كما يشاهد ..
الجندي المهجن في أيامه الأولى في العراق يؤكد من خلال رسائله عبر الأنترنيت لأمه إن قضيته لا تتعدى إلا بنوعية السلاح والوقاية واستعمال العنف وإن الأجهزة والتدريب والطائرات لن تخذله ، و الجيش سوف ينجز مهمته التي ذهب من أجلها كما ان الناس في العراق لا يفكرون بهم ..لأنهم الأكثر قوة عدة وعتاداً .
لكن القيئ كان اكبر من تلك الأسلحة وان نظرة الاحتقار المريعة أقعدت (رود ملفل ) ثلاثة أعوام وهو مكبل بالوسواس عوضاً عن بقية الجروح قادته في النهاية لمراسلة رئيس اقوى دولة في العالم يؤكد له ان تلك الزعامة قد جوبهت من صبية عراقية قروية فقيرة بحادثة زلزلت الاعتقاد الخاطئ بان انقاد بلد من حاكم لا يتعدى كونه احتلال يجب ان يجابه بكل الوسائل ..
رحلة فوق ...شواطئ الدم شواطئ الملح

لازلت اذكر اليوم والوقت والمكان والشخص الذي أهداني صدفة رواية شواطئ الدم شواطئ الملح للروائي الشهيد إبراهيم حسن ناصر ، وقد يعود سبب تذكري بهذه الدقة رغم السنين الطوال ورغم ما يعرف عني بكثرة النسيان أنني قرأتها في نفس الأجواء تقريبا التي كتبت فيه الرواية وان أحداثها كانت تتطابق بدقة أحيانا وتتقاطع أحيانا أخرى ضمن الواقع الذي كنت أعيشه بفعل عملي والحروب المتكررة على بلادي واذكر أن أول قراءة للرواية استمرت  سبع ساعات متواصلة ابتدأتها من الساعة التاسعة مساء وحتى الثالثة صباحا لأحملها في اليوم التالي إلى زميلي  رياض الجابر الذي تحمس لوصفي لها ولمجريات أحداثها لتصبح بعد ذلك محور حديثنا الذي لاينتهي مع كل مناسبة نلتقي بها ..
أن الإمكانية المؤثرة التي أستخدمها الراوي في وصفه وتعبيره عبر لغة شاعرية وسهلة استولت على القلب والعقل معا وأنها أعطتني دروسا أساسية في معرفة أسرار هذا الفن الجميل والصعب في نفس الوقت...
((أن أول العاشقين بلا أسى أو الندم وأكثرهم تيها في بحر العيون...أرتل آهات الغرام على الوسائد الخالية أوزع قلبي على مفترق طرق  ...أرحل الى أخر حدود العشق أذوب بين همس الكلمات وارتجف الشفاه الطرية))
لقد منحني إبراهيم حسن ناصر فرصة التعرف على قريته وحياته البسيطة عبر صورة واقعية رسمها بالكلمات ومنحها ألوان جذابة وواقعية الى درجة جعلني أتحين المناسبات والفرص لزيارة((قرية إسديرة)) والتعرف على أصدقائه وأهل بيته وما تبقى له من ذكريات والسؤال عن مكان قبره و الشجرة التي كان يختبئ فيها في صغره ليصطاد صغار العصافير ويجلب من جذعها حبات الصمغ ليصنع منها صمغا يستعمله لدفاتره وكتبه المدرسية ،وأن أسال عن ذلك الشيخ الذي كان في صباه من أمهر العازفين في شبابه على ((ألمطبك)) وكيف انه كان يجوب القرى ليل نهار يبحث عن فرح أو عرس حتى قيل انه من تجواله الدائم يقوم بحلق ذقنه ماشيا حتى لا يفوته الوقت  ....وكم زادني ألما وهو يصف استشهاد رفيق دربه واحد أبطال روايته ...كاظم الطيار الذي احترق بطائرته السيخوي
(متى كانت صداقتنا ؟ كل ما أتذكره  أننا ولدنا أصدقاء تسكننا روح واحده ....لكنك أسرعت بالرحيل واخترت طريق النهاية )ص144وكيف إن والده قد غضب عليه ورفض السلام عليه حين أصر كاظم على أن يتزوج من امرأة أحبها ولكن لم تكن قريبته أو من بنات قريته.. تمنيت لو أنني أحظى بلقاء والده لأرجوه أن يصفح عنه ليحظى برضاه الله في عليين بعد أن أكرمه بالشهادة...
أن جرأة ابراهيم بطرحه ورفضه الحرب وهو مقاتل شجاع عاش أحداث حرب الفاو واحتلالها وتعامل مع أوجاعها وموتها بكل تفاصيلها يجعلك لا تستهين بتلك الشجاعة  والغرابة  وهو يصف رفضه للحرب في زمن الممنوع((الحرب إعصار من نار وحديد يجتاح الأرض لكنه يبدأ من عقول القادة وينتهي في أجساد الجنود في قلوب الأمهات وفي دموع الأرامل))
ان وميض الهاونات والمدفعية التي استعان بها الروائي لكتابة روايته في ارض المعركة منحتها نضوجا وتألقا وتعاطفا في مشاركة إحداثها أثناء القراءة وكأنك تقف معه في نفس الموضع الذي يقف فيه و يقاتل منه...
.....لقد قدر الله لي بعد تلك السنين الطوال أن أتعرف على ((  إدريس)) صديق الروائي وقريبه واحد أبناء قريته وقد هالني  ما سمعة منه وهو يحفظ الكثير من مقاطع الرواية وقد دعاني لحضور إحدى نشاطات منتدى إسديرة الثقافي والتعرف أكثر على بيئة الروائي وقد لبيت الزيارة في وقت كان انفلات الأمن والموت في بلادي لا يفرق بين الإنسان والحيوان والجماد ...

وقد تكللت الزيارة رغم ضيق وقتها بكل ما كنت ابحث عنه  في رأب الفراغات التي أودعها الروائي بروايته واسكنها قلبي .....وكم كانت لحظات ترجلي في مقبرته  ممزوجة بالدموع والفرح معا ،،لم أتمالك روحي وجسدي اللذان  راحا يرتجفان كورق الخريف أمام قبر من الدوارس طويل ومغطى بالحصى الأبيض ..   يعتقد واضعوه وهم من النسوة طبعا  أنها تجلب له السكينة في قبره وتبعده عن وحشته  ...... تأملت قبر ابراهيم (بوناسته) التي لم يرحمها الزمن و رحت أناجيه كصديق تسكننا روح واحدة وتجمعنا ذكريات عمر طويل تجسدت بعدد القراءات المتكررة للرواية اردد ما كان يقول((نكبر ....نكبر كالمآسي ...نرحل كالأنهار ...نحاصر كالدموع في القلوب الجافة ....نتلاشى كأخر السحاب في صيف ملتهب الحر نسقط في انتظار النهاية كالقبور .....يا لخسارتي الكبرى...))

تعليقات