رواية
رغبات أظلت طريقها
في
ميزان النقد الانطباعي
الدكتور باسل مولود
يوسف
يعد المنهج الانطباعي أو التأثري ، أقدمَ منهجٍ للنقدِ ظهرَ في التاريخ ،لكن
هذا المنهج لم يختفِ قط بل ظل قائمًا وضروريًا حتى اليوم . والنقد الانطباعي له
ارتباط وثيق بالقيمة ، لذلك فهذا النوع من النقدِ غيرَ مستقلٍ عنِ المدح أو الذم .
فهو يقومُ به أناس اعتادوا بحكم طول مزاولتهم لقراءة الأدب وفنونه أن يتذوقوا ما يقرؤون
ثم يحكموا له بالجودة أو الرداءة.
ويقصد بالنقد التأثري : هو النقد
الذي تكون الدوافع الذاتية هي التي تتحكم فيه ، بمعنى أن يكون تقويم الناقد للعمل
الأدبي مبنياً على أساس ما يبعثه في نفسه ، ومدى ما يستثير من ذكرياته وعواطفه
الكامنة في ذاته . (1) فهو يعتمد إلى حد كبير على الخلفية الاجتماعية
والثقافية ، والعوامل المؤثرة في تكوين شخصية الناقد وحده ، وهذا الأسلوب في النقد
هو الذي نشأ مع الإنسان ، وغلب على حياته الأولى ، فإذا نظر الناظر في رسم أو قرأ
عملاً أدبياً ، انفعلتْ نفسه بما أثارت لوحة الرسام ،أو صوت المنشد ، أو قصيدة
الشاعر فيبدي رأيه غيرَ ناظرٍ إلى رأي غيره ، ولا إلى طبيعة هذا الشيء الذي أثاره
أو أثر فيه ، وإنما يعبر في هذا الرأي عن عواطفِه ومشاعره الخاصة تجاه هذا الشيء.
وقد كان يؤمن الدكتور محمد مندور(1907 م 1965م) بالانطباعية ، (2)
ويرى أنها الثابت النقدي الكبير في التحولات المنهجية المختلفة ( اللغوية
التاريخية الايدلوجية ....) وذلك لاعتقاده أن (( المنهج التأثري الذي يسخر منه
اليوم بعض الجهلاء ، ويظنونه منهجاً بدائياً عتيقاً بالياً لا يزال قائماً وضرورياً
وبديهياً في كل نقد أدبي سليم ، مادام الأدب كله لا يمكن أن يتحول إلى معادلات
رياضية أو إلى أحجام تقاس بالمتر وألسنتي متر أو توزن بالغرام والدرهم )) والنقد
التأثري هو الأساس الذي يجب أن يقومَ عليه كل نقد سليم ، ذلك لأننا لا يمكن أن
ندرك القيم الجمالية في الأدب بأي تحليل موضوعي ولا بتطبيق أية أصول أو قواعد
تطبيقا آليا ،(3)وإنما تُدرك الطعوم بالتذوق المباشر ثم نستعين بعد ذلك
بالتحليل والقواعد والأصول في محاولة تفسير هذه الطعوم وتعليل حلاوتها أو
مرارتها. وهذا النوع من النقد له مدارسه في القديم والحديث فمن أولئك [
لانسون الفرنسي ] الذي يتبنى هذا النقد ويذود عنه في كتابه : [ منهج البحث في
الأدب ] فهو يقول : لا نستطيع أن نتطلعَ إلى تعريف أو تقدير لصفات عمل أدبي أو
قوته ما لم نعرض أنفسنا قبل كل شيء لتأثيره ، تعريضاً مباشراً.(4) وهذا
الكلام قريب جداً من كلام واحد من كبار نقادنا القدماء وهو عبد القادر الجرجاني
الذي يُقِرُ بتأثير المشاعر في الأحكام الأدبية في قوله [ إذا رأيت البصير بجواهر
الكلام يستحسن شعراً أو يستجيد نثراً ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ ، فيقول
حلو رشيق ، وحسن أنيق ، وعذب سائغ ، وخلوب رائع ، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال
ترجع إلى أجراس الحروف ، وإلى ظاهر الوضع اللغوي ، بل إلى أمر يقع من المرء في
فؤاده ،
وفضل يقتدحه العقل من زناده (5) ..
وفضل يقتدحه العقل من زناده (5) ..
يقول
القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني في قوله في الشعر((: وهو باب يضيق مجال الحجة
فيه ، ويصعب وصول البرهان إليه )) ثم يقول : (( والشعر لا يحبب إلى النفوس
بالنظر والمحاجة ، ولا يحلى في الصدور بالجدال والمقايسة ، وإنما بعطفها عليه
بالقبول والطلاوة ، ويقربه منها الرونق والحلاوة ، وقد يكون الشيء متقناً محكماً ،
ولا يكون حلواً مقبولاً ، ويكون جيداً وثيقاً ، وإن لم يكن لطيفاً رشيقاً . انتهى
كلامه من كتابه : الوساطة بين المتنبي وخصومه (6) )) قال الدكتور بدوي
طبانة : (( ومثل هذه الآراء في أدبنا العربي وفي الآداب الإنسانية كثير ، وكلها
يدل على الاعتراف بهذا( النقد التأثري ) الذي تكون ذات الناقد فيه ، واستجاباته
الخاصة هي الأساس الذي يبنى عليه تقدير الأعمال الأدبية والحكم عليها بالجودة أو
بالرداءة ، ويقول في موضع آخر : (( ومن هذا يتضح أن النقد التأثري يعبر دائماً عن
الرأي الذاتي لصاحبه ، ومدى استجابته للعمل الأدبي ، وانفعاله به ،وفي هذا النقد
كثيراً ما تتعارض الآراء بتعارض الميول والنزعات، واختلاف العواطف والانفعالات .
))
ولعلنا نرى أحيانا بعض النقاد (
الأكاديميين) الذين يعتمدون المقياس الموضوعي فقط ، قد أنتجوا لنا نقدا باردا لا
حياة فيه حين يتناولون نصوصا يتم معالجتها وفق مقاييسهم المعروفة، ولكن ذلك يكون
لسببين: أولهما عدم الاعتماد بشكل أو بآخر على الذائقة الشخصية أو إهمالها تماما،
وثانيهما أن الناقد المعني لا يمتلك موهبة النقد، والنقطة الأخيرة تشبه إلى حد
بعيد من يحمل شهادة راقية في الشعر العربي مثلا ، وهو ليس بشاعر ولكنه قد يكون
ناظما للشعر، وذلك لا يعني أنه شاعر حقا أو الذي يحمل شهادة عالية في الترجمة ،
ولكنه لا يستطيع ترجمة نص إبداعي ترجمة مبدعة. وقد جرى استعمال اصطلاح ( النقد
الأكاديمي ) على كل نقد يحمل سمات التعالي على نتاجات(7) المبدعين
ويؤطرها في قوالب جامدة لا روح فيها ولا حياة. لكن الاعتماد على النقد الذي يأتي
بوحي الذائقة لوحدها له مخاطر الانزلاق في مطب الذاتية والتقويم المنحاز. وهذا
معناه الركون إلى الانطباعية ومالها من مخاطر لا تعطي العمل الأدبي حقه من التقويم
الذي يستحقه. المقياس الأوحد الذي تقوم عليه هذه المدرسة هو مقياس التأثير ،
فلا يُقال إن هذه القصيدة قصيدة كلاسيكية أو قصيدة رومانتيكية ، بل يُقال إنها
قصيدة جميلة أو رديئة ، المهم هو شعور القارئ والناقد وليس إلا قارئا مرهف الحس ،
سليم الذوق ، المهم هو التأثير الذي يجده المتلقي من(8)
النص. والذي يُقال في الأدب يُقال في سائر الفنون ، ليس الفن تصويرًا للحقيقة
، فمن ذا الذي يعرف حقائق الأشياء ؟ ليس الفن التزاما بالواقع ، فكل منا يرى
الواقع من زاويته الخاصة.
الاتجاه الانطباعي كغيره من الاتجاهات الحداثية انتشر
بشكل واسع في العالم العربي.
وقد عرف بهذا الاتجاه الشاعر البحريني إبراهيم
العريض, وكذلك الكويتي علي زكريا الأنصاري, وكثير من الرومانسيين في العالم العربي
هم انطباعيون (تأثريون).يقول محمد عبد الرحيم كافود(9)"إن
هذا الاتجاه النقدي, وهو الاتجاه التأثري نجده قد أخذ به بعض النقاد في منطقة
الخليج ومن ذوي الاتجاه التجديدي, وتحمسوا لهذا النوع من النقد, لأنهم يرونه أجدى
سبيل للتواصل بين القراء والعمل الفني(10)..., هذا ما ذهب إليه الناقد
الأديب إبراهيم العريض...., وهذا الاتجاه النقدي عند العريض ناتج عن أثره بالاتجاه
الرومانسي, فهو كشاعر يخضع لهذا الاتجاه...., ويقترب علي زكريا الأنصاري في نظرته
إلى النقد ومهمته التفسيرية من نظرة العريض.... , فالنقد عند علي زكريا هو النقد
التأثري كما هو عند سابقه العريض...." (11).كذلك
انتسب إلى الاتجاه الانطباعي (التأثري) كل من سليمان الشطي وهداية سلطان السالم
وغيرهما (12) .بل
إنهم أعدوا مدرسة الديوان, التي تمثلت في العقاد, والمازني, وشكري, رائدة هذا
الاتجاه في العالم العربي(13)
ومن خلال هذا الاستعراض
المكثف عن احد اهم أنواع النقد الأدبي و اكثرها
بساطة يمكنه أن يكون تمهيداً لما سأكتبه عن رواية أسامة محمد صادق الثانية والموسومة (رغبات أظلت طريقها) واسأل
الله ان يوفقني في أثراء القراءة ورفدهم بالمعلومات التي تجعلهم اكثر تمسكنا بها ،
فضلاً عن تحقيق الأهداف التربوية والعلمية ولنا في توفيق الرحمن رجاء كبير .
ان أول ما يثير القارئ
لرواية ( رغبات أظلت طريقها ) هو اعتدال في الخيال في توليد الصورة للأحداث و عدم المبالغة والغلو
في اكثر الأغراض الحديثة في اطار الشخصيات من حيث المدح و الهجاء و الغزل و الرثاء
كما في الشعر الحديث تجلت بوضوح في الأخير اكثر من العمل الروائي مع الاعتدال في
الجانب الفني والموضوعي بسبب تكلف الكاتب
وتوخي الوسطية هي الغالبة في هذه الرواية مع حضور واضح للوحدة العضوية
للرواية مع وحدة الموضوع في كثير من الأحيان(14).
عرف الكاتب بالاستقامة
, لكن المدارس التي انظم اليها الكاتب فرضت عليه مثل غيره من كتاب الرواية ان يكتب في اغلب أعماله عن الحب وأحواله , فتتغلب الغزلية الجميلة ومن ثم تتطور الأحداث في الرواية ليتناول جوانب أخرى
من الحياة واعتقد ان الكاتب له القدرة على الكتابة في مجالات أخرى ولكن لم تتجلى
لنا في هنا . كما هو معرف في أعماله الأخرى.
والرواية باختصار تدور
أحداثها عن فتاة تدعى (هالة)تتذكر وهي طفلة أن رجلاً كان يزورهم بين الفينة
والأخرى فيستقبله الأقرباء باحترام وتقدير وأنها لم تكن تفارق حضنه الواسع حتى
يخرج بعد أن تكون وجنتيها قد احمرت من شدة التقبيل وانه كان يزورهم بين الفينة
والأخرى حتى اختفى تماما وهي بعمر سبع سنوات فتتولد حين تكبر الرغبة والفضول
للسؤال عنه فتجيش تلك الرغبة كظل تفيئ به للبحث عنه فتبدأ تتلقى الإجابات عن أسئلة
تسألها لأمها فتكون تلك الإجابات مختصرة ، وشحيحة ، وقد تصل الى حد الامتناع
والرفض والتهديد .. ثم تذهب الى إخلاص
حبيبته والتي كانت لا تفارقها عند كل لقاء
معه وبطلب منه ، فتكتشف أن العلاقة قد انتهت بينهما منذ زمن وانه هجرها ليتزوج
زوجة أخيه الشهيد ثم ما تلبث تلك الرغبات لأن تتركها للقدر فتهملها تارة وتارة
أخرى يعتليها الفضول فتبدأ بالبحث عنه عند أقربائها في الحي القديم التي كانت تسكن
فيه حتى انتقالهم لمدينة أخرى بعيدة فيصيبها الخجل للسؤال عنه ، وهي بعمر الشباب
ومهما حاولت لم تجد ما تبحث ومع كل هذا كانت تسأل نفسها السؤال المتكرر عن سبب
رغبتها والدوافع التي تريد أن تصل اليه فتناقض نفسها ما بين الفضول والحب والأثارة
وفي صدفة تلتقيه وقد بلغ به الكبر فتجد في
رغباتها اندفاعا اخر تموه من خلالها شخصيتها وتتجنب في أن يشك لو لحظة بمعرفتها فتنشأ
علاقة لا تعرف لها خلاص ولا نهاية حتى عزمت
على أن تبقى تلك العلاقة ضمن دائرة الأثارة
من خلال ما تكتنزه من معلومات
فتبدأ تفاجئه عند كل جلسة بما تعرفه عنه بدور تمثيلي كقارئة فنجان متمرسة أو
باستدراجه لأن يحكي حكاية عشقه الأول فتنتهي تلك الرغبات بحقيقة الرمز وما قيل عنه)
هذه أحداث الرواية بإيجاز ...ومن خلال ما تقدم نرى إن شخص الرئيسي أو (الرمز) في الرواية تميز بالبداهة و الرشاقة
و قوة الشخصية هذا ما أشار اليه النص (أذكر إن أول حاسة ولجَ
إليّ منها كانت حاسة السمع، حادثة روتها لي أمي حين كبرت، وأدركت إن لي حواسا ً
أخرى أستطيع من خلالها أن اعرف الدنيا، وأتعرف عليها أكثر. قالت لي:
- حين كان يشتد صراخك،
وأنت ِ لم تزلِ ملتصقة بالأرض كنتُ أُربت على صدرك، وأهمس بإسمه مرات ومرات حتى
تنفرج الابتسامة على شفتيك فتغطين بنوم عميق، ثم أعود فأتعوذ من ذلك الاسم، وأتوعده
بالويل والسرور في كل مرة ......)(15)
و نرى (هاله) تتلقى أخبار تلك الشخصية من الأم
وقد بدى على هاله الشوق واللهفة لمعرفة سر تلك الشخصية بأسلوب مباشر و مفردات
بسيطة وهذا ما دفع الكاتب ان يستمر على وتيرة واحدة و بخط بياني واضح لم يحد عنه .
(حين تحررت يداي من قيد
الأرض صادف إن سافرت مع أهلي، وإذا به معنا، في الحافلة الكبيرة لا أعرف كيف
قادتني قدماي إليه، ولماذا هو بالذات دون الغرباء.
شدني إلى صدره، وحملني،
وبدأ يقبلني، ويطيل بشمي، ومداعبة ضفائري.
رواية أخرى أكدتها لي
أمي حين أصبح لي عقلاً يستطيع أن يستوعب الحياة الدراسية.
كان ذكره يعلو بين
الفينة، والأخرى رغم إنني لم أجد له موقعٌا في شجرة العائلة ، ولم أكن أراه في
البيوتات الأخرى التي أزورها.
كنت أحاول أن أجد
تفسيرا ً، وأجوبةً لأسئلتي عنه وعن حضوره المتقطع وكان صوت أمي الهادر يأتيني
- لم يحن وقته بعد..)(16)
هكذا أوحى لنا الروائي
بطله هو مرمز بحكايات متناقلة عنه عن طريق الأم وبفضول من البنت التي كانت تتذكر
تلك الشخصية وهي طفلة وما ان اختفت وكبرت راحت تبحث وتسأل عنه .
أما الترابط الوثيق في (قصة الحب ) بين (إخلاص و
عامر عبدالوهاب ) فقد ساق لنا الكاتب هذه الأحداث ببساطة أسلوبها وجمال ديباجتها و
وضوح معانيها وابتعاده عن التزويق اللفظي إلا ما جاء عفو الخاطر و دقة اختيار
العبارات فكانت كالفيض الدافق لآنها تعبر
عن إحساس صادق و شعورا جياشا و (مسحة محافظة للأعراف والتقاليد السائدة آنذاك).
-
(كان ذلك حين كنت شاباً أتقد شهوة في عيون الأخريات ،
التقيتها عند أحد بيوتات الجيران وانا أروم بزيارة صديق مستصحبا ً معي والدتي وقد فضل الصديق الخروج
بعد أن ترادف وصولنا ،وصول ضيوف
أخرين يقصدون أمه العائدة من الحج
للمباركة والسؤال عنها ، وحين سألته عنهم قال لي ،انهم كانوا في زمن مضى يسكنون
الحي ، وانتقلوا لدار جديدة ، وكان من بين أفرادها فتاة تصغرني قليلا.
كانت بقامة نخل العراق
يتدلى منها قرطين يزين رقبتها الطويلة، تنتهي برأس أصيغت كل أجزائه بمهارة الخالق
العظيم، وقـد أراد لهذه الفتاة أن تـكون جـميلة في كل شيء. كنت حينها في السنة الأخيرة
من الإعدادية أنتظر نتيجتي، وحين عدت مع أمي كانت ثمة علاقة قد بدأت بعد أن دعت
لها أمي ونحن عائدين ، وأثنت على صفاء عقلها، وحسنها، وإنها ما عهدت أن تتبادل
سيلاً من القبل مع فتاة بذلك الشغف ..
بعد التحاقي للكلية
العسكرية دأبت لتحمل مشقات التدريب ، وعلى مدى عامين تقريباً قمت بوضع صورتها في
مخيلتي كهدف أسعى لكسبه حال تخرجي ، وأجزم أنها كانت تخفف عني تلك المعاناة ، وأنا
أستبدل صيحات العريف بصوتها النزق ، وحديثها الذي لا يمل وإذا أخضعنا لتدريب يطول
لساعات تحت لهيب الشمس كانت معي تقاسمني إرهاصاتي ترتدي البدلة العسكرية وتضع على
رأسها خوذة الحرب ،وتقتنص غياب أمر الفيصل وتبدأ بالغناء .
أد الدنيا بحبك
وأنا بلا حبك بدو يفضى
البي
بدو يفضى البي
ما حدا يعدي مطرحك
بقلبي
خبرني يا حبي ، خبرني
يا حبي .
كنت أصحبها معي ، وعلى طول أرض المعركة أنهي ليالي الحروب برسالة
أعدها عن كثب ، وأشرع باقتناء الهدايا ، وكم كنت قاسياً إذ كنت أضع في صندوق الهدايا شظايا الموت التي تخطتني ، وانا أواجه العدو ، كنت أصف أماكن
قربها مني لدرجة أنها كانت تنهي اللقاء بأن تقفل فمي بيدها وتستعيذ من كل عدو يريد
أن ينال من حبيبها ...!)(17)
لم تشغل إخلاص الحبيبة
حياتها الدراسية ولم تستطيع ان تخفي تلك العاطفة الملتهبة التي أخذت عليها لبها
وهي في صراع داخلي أو ما يسميه علماء النفس ديناميكية العمليات السلوكية التي
تتأرجح بين البحث والمفاضلة والمقارنة في
تلك الشخصية ، ونرى هنا إن الرواية كانت رتيبة بعض الشيء في انتقال الحديث و تداوله و كان صعب عليه أيضا ان يتجاوز الرتابة اللغوية و لم يتمكن من
استعمال طرائق المجاز المختلفة بسبب وحدة الموضوع (18).
استعمل الروائي المجاز
العقلي الذي هو إسناد الفعل أو ما في
معناه الى غير صاحبه للعلاقة مع قرينة
مانعه من إرادة الأسناد الحقيقي والعلاقة هنا هي علاقة زمانية فهو يسند (
الفعل ) الى ( الدهر ) وهو زمان حدوث
الفعل ، ثم يتسأل الروائي عن استمرار الظلام رافضا ما يعيشه الناس من ظلم وجور يصل
الى حد تنافر الحق والعدل ، وهما متلازمان متلاصقان ، ولعله أشاره الى التواصل الاجتماعي
من خلال هذه الصورة المجازية ولابد للمرء من ان يتحرك لرد الظلم وإلا فسيكون الموت
الذي سيصيبه أهون عليه من عيش الذلة و الهوان ، ,وهل هناك داء يصيب
المرء اكثر قتلاً من قلة الوفاء و تفشي ظاهرة قطع صلة الرحم و عدم التواصل ، هنا
تجلت رؤية الكاتب حيث أشار من خلال طرحة على أهمية التواصل و الوفاء والابتعاد عن
الأنانية(19) .
انعكست الطبيعة بنفس الكاتب
فتفاعلت مع أحداث الرواية وامتزجت
بخلجاتها فخرجت تلك التجربة النفسية وهي تلبس رداءها وتحمل سماتها وأبعادها
الوجدانية والعاطفية ، فنرى علم العراق و ساريته (رمز العراق )تمثل بعداً نفسيا في
تجربة شخصية ( هالة) في الرواية الوجدانية ، فهي عنصر من عناصره و رموز الوطنية
وهو رمز شموخه والانتماء الى ترابه ، لذا فهو يمثل صورة من صور الوطنية والشعورية (
لم
يكن طويلا ً، لكن بزته العسكرية كانت توحي لي بأنه بطول سارية علم مدرستي، وكنت
أجزم حين كنت أصفه لصديقاتي فيسخرن فأصر مبررة ً بالرسم الذي على كتفيه، والذي
يشبه الرسم الموجود على علم بلادي وإن كانت الألوان تختلف.
وبعد كل هذا العمر ما
زلت حين كنت ألتقيه أتحين المناسبات لألتقط معه الصور فأعود لأجزم ما كنت أحفظه في
ذاكرتي من صور، وأنا صغيرة.)(20)
وهنا تمكن الروائي من
توظيف العلم كرمز من رموز الرواية بالإضافة الى ذلك استخدمه النجوم
الثلاثة في مكان اخر ووظفها بشكل رائع (21)، ونستطيع القول ان
استطاع في ربط الأحداث والتوافق و التواثق المحكم بينها، عندما تصف (الرمز) بقوامه
المعتدل الذي يشبه النخلة التي تتحلى بإكليلها الأخضر ، الذي ينافس كل رشيق ذات
قوام مياد ، هذه الشخصية المؤثرة جعل الروائي منها صورة جميلة للمقارنة بها و
حقيقة ان هذا الأسلوب قد أوجد غبطة لدى القارئ ثم بعد ذلك أثار حفيظته لوصفين
مختلفين من حيث الجنس و لكن يلتقيان في صفات تكون مقبولة من حيث القراءة الحسية والأدراك الحسي التشبيهي, او ما يسمى بالمقارنة المجازية إنجاز
التعبير في ذالك .
لقد حاول الكاتب التمسك
بتقنيات روايته المتمثلة بالإيجاز و الكثافة في آن واحد فضلاََ على قدرة الراوي على إدخال القارئ في
عوالم روائية جديدة جمع بين الإسهاب والاختصار وهذا لا يمكن ان يتحقق ألا من خلال
إتقانه لصنعته .(22)
فقد جعل من الليل الطويل الرتيب الممل أنشودة
استطاع ان يقطع طوله و يبدد سكونه ,وان ينسج أملا مرجواً بعودة محبوب او قريب كان مسافر,
لكنه يمر و يبتعد و يتلاش خلف أحداث و زحام أشباح بعيدة, ولم يبقى في النفس غير
التعب و الحزن و خلاصه (23). (صعدت الى غرفتها فتحت
ستار نافذتها أمعنت بمنظر السماء وهي مقمرة فحملتها النشوة لإعادة حديثه
بذاكراتها، تمنت لو إن الشمس التهمت ظلام الليل لتشرع بلقاء جديد . تمنت لو إنها
تجيد دور عرافة توهم السذج وتجعلهم يؤمنون
بأنها قادرة على فك طلاسم ماضيهم لتقرنها
بالحاضر وما سيحدث لهم في المستقبل ..
وضعت رأسها تحت الوسادة ودعت أن ترى حلماً خرافياً كالذي تعيشه ..)(24)
أن
تتطور الأحداث وما تلجئ اليه (إخلاص ) لأن تعبر عن انفعالاتها بحوارات كلامية
متنوعة تشمل الحب، الانتقام ، اللؤم ، وهواجس
أخرى, وان كانت تلك الهواجس بسيطة, ثم
تطور تدريجياََ حتى تصل مستوى الذروة وتصبح
تصرفاتها تتسع عندما تندمج في المجتمع الذي عاشت معه, اذ كون ذلك الاختلاط تجربة
جزءاََ من تجربة الحدث الذي رسمه الكاتب و
حدد مساره بحرفية تكاد تكون غير منضبطة في أول وهلة للقارئ و يغلب على لغتها وضوح
الخطاب, فتعرض على الناس عواطفها عندما أحبت و كرهت, ملونة ذلك بخيالها الخاص وسبب
ذلك متصلة بمزاجها وبيئتها, و بالدوافع التي يثيرها(25).( وما إن حل الليل نامت
الى جوارها بمخدع واحد ، وراحا تتحدثان عن كل شيء حتى وجدت في ذكره مناسبة فسألتها
عنه وما تذكره وهي صغيرة ، وإذا بها تميط اللحاف عن جسدها ، وتقف كشجرة توت لا
رداء لها لتشرع بأقذع النعوت اغتاظت كثيرا
ً ثم أجهشت بالبكاء ، لم تتحرك هالة من فراشها
، خوفا ً من ترك مسافة للغموض تحجبها عن البوح
، سألتها أن كانت بحاجة إلى الماء لتشرب .. أومأت برأسها، ثم صمتت منكسرة ..، وما أن هدأ روعها واستمالت الجوارح وعاد
العقل يمارس فروضه قالت:
-
كان يحبني كثيراً لا
أحد ينكر عنه ذلك وكنت مولعة برجولته، وقساوته أذكر له مواقف تؤكد كرمه وطيبته
...نعم ...الكرم يغطي العيوب!
لم يصلني عنه طيلة
الأعوام الستة التي قضيناها انه فكر بخيانتي أو الغدر بي، وكنت أوثر عليه حنانه،
وحرصه على ان أبقى سيدة عصره، ولا أحسب إني خيبت ظنه ،كان يكثر بالقول بأنني
الوحيدة التي دخلت عالمه غازية ، وخاضت في
دمه، ولي السبق في غض بصره ، في حين أن
إحساسي كان يعدني بأني مقيدة بسجنه ، وأقبيته ارفض نفض غباره المتراكم على صدري
بسبب غيرته و تشدده ، مغرمة بتشويشه الذي حجب عني كل المحطات إلا محطته ، ودعاني
لأن احلق بفضائه وحدي كالعصافير بمليء إرادتي ، كنت اعتبره أنسانا ً لامثيل له، لا
ند له ، لا شبيه له!! ...
كانت
بلاغته في الحديث تمكنه من أن يعبئ الهواء لتخرج منه أفكارا ً وحكما ً تفرض
سيطرتها على كافة حواسي وتلزم عقلي بالرضوخ لكل ما يطلبه ،..ثم عادت الدموع اليها لتنساب كسيل من اعلى
الجبال ، جلست متربعة ثم غيرت جلستها جمعت ركبتها إلى صدرها ولفت عليها ذراعيها ،
بدا عليها القلق ، و الرعب ، صورة تبعث على الشفقة ، قالت :
-
لكنه في النهاية تزوج من امرأة لا ترقى إلى
جمال روحه ووسامته.. ، وأنه لم كان سعيدا ً، والأنكى من ذلك أنه أنجب
منها..!!)(26)
نرى ان هذا الحوار المكثف بين شخوص الرواية, قد أدى
فكرة الحدث بأقصر العبارات للقارئ مع وضوح
قدرت الكاتب في أيصال المعاني العميقة
بلغة مؤثرة, و انه يختفي تماماََ وراء
شخوص الرواية بشكل جيد و يدير حرفتيه بشكل ممتازاََ.
ثم ان حشداًمن المعلومات ادرجها الكاتب لتكون
مكملا لوقائع ومجريات هدفها هنا نقل الأحداث
بتسلسل منطقي متسلسل يعطي للقارئ ثقافة ومعلومات مفيدة عن علم النفس
وعن الواقع وما تركز عليه .
(أذكر محاضرة للدكتور صلاح
الراشد كانت بعنوان (واقعك ما ستركز عليه) اعتبر ان ما نجده في الواقع هي الأفكار، والقناعات التي نحملها ، واعتبر أن الأنسان هو الحقيقة
، والمرآة هي الانعكاس وأن أي تضبيط في المرأة
لا يحدث تغيراً على الأنسان لأن الأصل بقيَ
على ما هو ، واعتبر إن العالم يعيد تشكيل نفسه ، ويعطينا بما هو موجود في داخل أنفسنا،
وهو مصداق لقوله تعالى (في سورة الرعد: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) .
أي ان التغير في الخارج
لم يكن يحدث لو لم يتغير الأنسان من الداخل، فإذا أردت ان تعرف ما هو الموجود في داخل
نفسك أنظر الى حياتك في الخارج ، فإذا كانت عندك مشاكل كثيرة في حياتك فأعلم أن لديك
مشاكل في الداخل ، وإذا ما وجدت الطيبة في الخارج فأعلم أن هذه الأمور الطيبة هي ما
موجود في داخلك ...وأن ما نعتقده، ونركز عليه
سيتحقق في النهاية ، فإذا ما تخلصنا من القناعات السلبية في حياتنا وحولناها الى قناعات إيجابية بالتأكيد ستكون النتيجة مغايرة
...)(27)
(كان ذو سحنة سمراء
شديدة بعض الشيء، وجسده ممتلئ، و المسافة ما بين الخدين متقاربة تعطي انطباعا
بأنه، وقور، ورجل متزن، وغير عدواني، في حين ظل شاربه خفيفا أمتنع عن النمو .
غير أن ابتسامته تبدو كقارب صغير في بحر توشك
الشمس أن تختفي خلفه، صفات أدركت معانيها وحللتها بعد أن بزغ شبابي، ونلت شهادة
البكالوريوس في علم النفس.)(28)
كما أن ثمة معلومات
أخرى ركز عليها الكاتب من خلال أحداث الرواية في طريقة قراءة الفنجان ومدى صحة المعلومات التي تأتي بها العرافة من
خلال بقايا القهوة في داخل الفنجان وتوظيفها
في المتن الحكائي للرواية.
(ثم عاد الى كوب قهوته ،
واجهز عليه تماما ثم طلب فنجان أخر ، وهنا وجدت (هالة ) المنفذ للولوج الى داخله وانتزاع هول المفاجأة .
طلبت من النادل أن يضيف الى قهوته شيء من الروائح كماء الورد ، أو الزهر ، أو
العنبر، وحين أستفسر من فعلها أدعت
بقدرتها على قراءة الفنجان
، شرط أن يلتزم ، ويشربه بقلب خالص
، ونية صافية وتكون سريرته متجهة الى الغرض الذي يقصده ، والنية التي ينوي عليها
على أن يؤمن بأن العلم كله بأمر الله ثم يشرب الفنجان ، ويتنفس شهيقاً، وزفيراً مع كل شفطه ، ثم يبقي على الربع الأخير من البن في قاع الفنجان ويقوم برجه الى أن يمتزج
ببعضه ويصير كالسائل ثم يقلبه في الطبق ، ويتركه حتى يصفى التفل الزائد وبعدها
بخمس دقائق ستشرع بقراءته .
هكذا تعلمتها من مواقع الأنترنيت
، ودأبت على حفظها والغوص بألغاز ما فسره علماء هذا الفن، بعد أن علمت أن القهوة
مشروبه المفضل ، وانها من خلال فنجانه ستلقي كل ما تحفظه عنه،
لتنعم بعدها برقصة الظفر بقلب يأن بالانكسارات .
التزم (عامر) بما أرادت
، بعد أن استهوته لعبة القراءة وما سيؤوله اكتشافها ..
قالت : بعد أن أمسكت
بالفنجان من نفس المكان الذي كان يمسك به وبنفس الطريقة بأصبعي الوسطى والابهام .
- هل تريد أن اخبرك ما في الفنجان عن ماضيك وكيف انتهت حكاية عشقك الأول ..
أجاب على الفور ..
-
لطالما تمنيت أن أجلس
مع عرافة ..أستمع فأستلذ بكذبها ...
ابتسمت ثم سرعان ما
تقلصت شفتيها وضمرتها بمكر ثم عادت وقرأت:
-
بسم الله الرحمن الرحيم
(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
وعند رفعها للفنجان
قالت (بسم الله الفتاح)
ثم أمعنت بالرسوم،
والخطوط، والتجاريف التي في رواسب القهوة في ربع الأسفل العلوي من الفنجان)(29).
لقد وجدنا ان بعض الشخصيات عبرت عن ذاتها في
رؤيا وجدانية بعيدة عن التعصب و التكلف, و أتت بعفوية و بأسلوب ادبي جميل يتميز
بالسهولة و الامتناع عن التكليف و التصنع الذي يثقل على كاهل المتلقي, و نرى ان بعض
الحوارات وان كانت محدودة الطول قد كتبت بطريقة تشويقية.
تعد هذه الرواية من
الروايات حديثة التقنيةَ فالرواي فيها متعدد الأصوات ينقل من خلالهما الأحداث كل ُ
بطريقة مغايرة عن التي سبقتها ، وهي حرفية تلامس الوجدان الاجتماعي و البناء الأسري
الرصين صور فيها الكاتب البيت الأسري
,متراص العلاقة ,فيها الكبير والصغير متكاتفين متعاونين كالبنيان المرصوص يشد بعضه البعض يجمعهما الحب المتواصل رغم المنغصات التي يدور
راحاها بالتعامل اليومي وما أحدثها تأزم العلاقة الزوجية ما بين ام هالة وأبيها
بسبب فشل زواج إخلاص من عامر بعد تبني
عائلة هالة الموضوع برمته , أن سعادة هذه
الأسرة تستمد سعادتها من سعادة المجتمع, مادام أفراده متآخين متعاونين, يؤدى كل
واحد منهم دوره باعتزاز و احترام, فأن لم يكونوا كذلك و تعالى الأقوياء على
الضعفاء, يئس الفقراء من العيش و تخلو عن
دورهم في الحياة والمجتمع(30),فأختل توازنه وضاعة الحقوق و ساد الظلم.
بهذا النسيج الأدبي ,رسم لنا إسامة لوحة
فنية واضحة لحالة لأنسان في المجتمع ,حيث وضع للإنسان أهمية ووزناََ وظهرت قيمة النص الاجتماعي والإنساني من خلال الاستناد الى
مبدأين ,الأول حاجة الأنسان الى أخيه
الأنسان مهما قلَ شأنه , فحث في رِوايته على التعاون وتبادل شعور مودة والأخوة ,والثاني الحفاظ على
سلامة المجتمع من النزاعات الهدامة فدعا
الذين يتأثرون بالأفعال والأقوال السيئة
عليهم عدم الهوان أو ان يعتزوا
بمكانتهم ومهنهم (31) مهما صغر
حجمها فكل ذي مهنة عظيم مادام الناس يحتاجون اليه ..هكذا حقق النص من إمتاع
الأذهان, وتبصير الناس بحقائق الحياة و أسرارها العميقة, فكل أمريء يؤدي دوره في
الحياة لا تستقيم بدونه مهما بدا ضعيفا.
و على ما نعنيه بتقنيته
في بناء الحكاية في روايته و أعتمد على
جملة من المفاهيم و التصورات التي تربط العلة بالمعلول, ففسر لنا النص من حيث
مهمته و ماهيته و أداته(32),و شدنا بطريقة فنية تقليدية الى صلة بين
الفن في ذاته و الفن باعتباره احد جوانب البناء الفلسفي الشامل, حيث أشعرنا الكاتب بضرورة تجاوز الإنسان لمستوى
الضرورة و الوصول به الى السعادة التي هي (أكمل المقصودات الإنسانية)(33)
علق الكاتب على الربط
المنطقي بين الأنسان و وطنه و اهم ما في الموضوع تعلق هالة بشخصية(الرمز)و الذي
عبرت فيه عن تعلقها به و تأثرها به ليكون رافد قوة متميزاََ بتاريخه مبدعاََ
مشرقاََ بالخير, و تتمنى ان يبقى كذلك دوماََ, يختار الكاتب عدداََ من أصعدة
الحياة, وبوضوح لا لبس فيه, الفن ,البيئة, لسلوك الاجتماعي, الجيش المدافع عن
العراق ، الشعر, ثم يطالب العراقيين بالأبداع فيه, و هنا نقرأ من خلال هذه الرواية
صوت الاحتجاج الاجتماعي الذي يحث على النضال من أجل حياة إنسانية أفضل(34) انه صوت العراق بمسيرته الحافلة بالصعاب, فقد
جاهد أبناءه في الداخل و الخارج و الى جانبه كافة الأدباء و الكتاب و هنا يدعو
الكاتب الى تبنى جهود الرواة و معاونتهم(35).
كان أسامة متصرفاََ في روايته, متفوقاََ
في ضروب الرواية القصيرة ان جاز التعبير, أبدع بالاختصار و الإيجاز و الاقتباس من
الرواة السابقين, وان الحافز الشعوري الإنساني
قد توافر فأسهم في إخراج الحوار الهادف على نحو ما خرج عليه مؤثراََ في
نفوس قارئه, و يتعين هذا الحافز في ان الحق
يعلو ولا يعلى عليه, وهو أداة الكاتب
و الراوي, و أقربهم الى قلبه, كونه أعلى قيمة و أكثرها رجاحة و أقربها الى ذاته, كما استعمل الكاتب
الاستعارات المبتكرة(36)،كما هو واضح في رؤيته للبكاء و كأنه دواء و
العيون و كأنها بشرٌ كرماء, و حيث جعل الموت و كأنه فاعل يختار, كما أستعمل الوان الأدباء و الشعراء
القدماء كقوله(بعيداََ على القرب, قريباََ على بعد)القول التصويري قصدت(37),
وكان يقصد بذلك التأثير بالقارئ و هذا ما نجح فيه برأي أغلب القراء الذين علقوا
على روايته رغم أن الأحداث قد تبدو للوهلة الأولى غريبة وتحتاج الى هدوء في ربطها
مع بعضها .
كما حدث مع الكاتبة هالة العبيدي التي قالت عن الرواية ما
نصه (ومضمون الحكاية وإن كانت غريبة للقارئ إلا أنها حدثت للكثير منا في صغره. وقد
أجاد الروائي في توظيفها بطريقة أحسست للوهلة الأولى أنه يقصدني أنا !! ثم ما لبثت
أن تطورت الأحداث الممتعة لأتهم من اعرفهم ومن بينهم الكاتب الذي جاملني وأقسم بعد
نقاش طويل معه أنه قد جمعها من هنا وهناك وأنها بلا شك لأشخاص نادر ان نجدهم الأن
فهم على طيبتهم وطهرهم فهم سذج وحمقى وواقعيون
!!...
البطلة الصغيرة (هالة) تكبر مع الأحداث ويكبر معها فضول البحث عن رجل وسيم قامته تشبهه سارية علم مدرستها ، لم تفارق حبيبته ابنة الجيران الذي كان يلزمها لأن تأتي معها فيحملها ويطيل الشم بضفائرها حتى أنقطع ذكره عنها وهي ابنة السبعة سنوات من خلال انتقال (البطلة) لمكان أخر يفصلها عنهم الكثير من المسافات فيتحول ذلك الشخص الى رسم لا يفارق مخيلتها وكلما كبرت راحت تسأل عنه دون أن يصلها شيء عنه حتى تلتقيه صدفة وهي ابنة (24) عاما وتبدأ المفاجأة (38)
البطلة الصغيرة (هالة) تكبر مع الأحداث ويكبر معها فضول البحث عن رجل وسيم قامته تشبهه سارية علم مدرستها ، لم تفارق حبيبته ابنة الجيران الذي كان يلزمها لأن تأتي معها فيحملها ويطيل الشم بضفائرها حتى أنقطع ذكره عنها وهي ابنة السبعة سنوات من خلال انتقال (البطلة) لمكان أخر يفصلها عنهم الكثير من المسافات فيتحول ذلك الشخص الى رسم لا يفارق مخيلتها وكلما كبرت راحت تسأل عنه دون أن يصلها شيء عنه حتى تلتقيه صدفة وهي ابنة (24) عاما وتبدأ المفاجأة (38)
و نرى ان ما تميز فيه كاتبنا في روايته
هذه سلامة الجهاز التصويري و السيطرة على مخارج تلك الصور الجميلة ووضوحها و جمال
وقعها, و اكتساب الخبرة الذاتية التي يتعين على الروائي و القاص بلوغها بعد أن
يستعين بالموروث الأدبي من شعر و نثر التي تعد الأساس في البناء النفس و الفكري
للقاص, بحيث ينطلق في الكتابة من دون تلكؤ, فيتدفق أنتاجه كالسيل و تأتيه الأفكار
و المعاني من غير تناقص, فضلاََ على ذلك فأن لأيمانه بقضية روايته أثراََ كبيراََ
في أثراء حواره بطريقة سهلة مرنة ذات شفافية عالية تدعوا للمستقبل رصين زاهر .
وكما يقال الكلمة اذا
خرجت من القلب تدخل الى القلب(39) .
لقد بلغت أحداث الرواية
ذروتها عند تخرج هالة من كلية الآداب/قسم علم النفس و حصولها على شهادة الماجستير
و هذه المرحلة الفكرية أثارت لديها مشاعر جياشه تحترق هنا و تنطفئ هناك , فبدت هنا
المشاعر و الأفكار هادرة لدى البطلة و
تدعو من حولها الى النظر في قضيتها و أحاسيسها, و نرى ان الكاتب وظف الأدلة
المنطقية بعيداََ عن الأنشاء و العبارات العاطفية و المحسنات البديعية.
مع ملاحظتنا بوجود خلل
واضح في التسلسل الزمني حيث ان الكاتب قد اخفق في أثارت الأحداث و متطابقتها مع
الزمن و كان بإمكانه المعالجة الصحيحة في توزيع الحوارات بشكل افضل لتغطية
الزمن(والذي يستغرق حوالي 24 عاماََ).
ما أضاء شمس الرواية,
هو الدقة التصويرية و التعبيرية التي اهتدت بها الصور الأخرى الى سبل الرشاد
العلمي, و سلكت طريق الوضوح, ونالت من الغايات أقصاها في جوانب معينة, ولكن ما
نقوله ليس كل ما تعلمناه من أصول الكتابة
نستطيع أن نحققه في رواية واحدة و لكن هذه التقنية تحتاج الى خبرة طويلة متواصلة و
نتمنى ان نجدها مستقبلاََ في أعمال الروائي أسامة لاحقاََ و نرى ان الكاتب أستطاع الربط بين الأحداث بشكل منطقي ناهيك عن
الزمن المشار اليه أنفا ..
لجئ الكاتب في بعض الحلات الى السرد الطويل
خاصة مع (قصة بلال خال البطلة الذي واجد
في هذا الإسهاب وغيره من الأحداث الأخرى قد خلق نوع من الملل وان كان يحاول
لأن يعطي مغزى يقصد فيه لتبسيط فهم الأحداث و تقريبها الى
القارئ رغم رمزية بعضها , والتي تخص نقده للحياة
الاجتماعية أو السياسية بأسلوب, قد لا يثير
غضب احد, شانه بذلك شأن الأديب الفرنسي الساخر|(لافونتين)إلا انه يختلف أحيانا في
الطريقة و استعمال الألفاظ ,حيث وجدنا الكاتب لا يسجع و لا يصنع ,و أنما يرسل
الكلام أرسالا, يسمعه المستمع البسيط فيظن انه بحسن مثله لكنه يمنع عليه, فاختيار الألفاظ
و تركيزها في مواضع استعمالها بحيث لا يمكن استبدالها بغيرها من المرادفات, لذا يطلق الأدباء على هذا الأسلوب
السهل الممتنع(40).
نرى ان الكاتب اتخذ
أسلوب المفكر الحكيم الذي لا يرضى الأحكام ليطلقها سريعة من غير تحليل, بل يدعمها
بالمثل, مبتعد عن الخطة المباشرة الى الأسلوب
القصص و الحوار, فظهرت الرواية مكتسباََ بالتجارب تترجم الغرائز المكنونة
في الأنسان, كامنة كمكمون النار في الحجر و العود ,لا ترى حتى يقدحها قادح من
غيرها(41).
لقد كان الكاتب منصفاََ
معتدلاََ اهتم بوحدة الحوار من دون الاهتمام بوحدة الرواية الكاملة, مما جعلنا ان
نقدم دراستنا ذوقياً تأثيريا و تجردنا عن منهاجيتنا العلمية الملتزمة
بالدراسة التحليلية و هذا ينطبق مع رأى
أبو عمر بن علاء المتوفي سنة 775 م و يقول شعر ذي
الرمة نقط العروس يضمحل عن قليل, و أبعار ظباء لها مشم في أول شمها(42),و
رأي الأصمعي المتوفي سنة 831 م عندما سأل
من أشعر الناس قال(من يأتي الى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيراً و الى الكبير
فيجعله بلفظه خسيساََ(43),فلم يظهر ناقد ادبي يحاول دراسة عمل الأدبي
من القصيدة أو قصة أو رواية من أعمال و فعاليات عناصر الأدب العربي و مكوناته
كوحدة متكاملة فيحللها و يبين مواطن الجمال فيها ثم يحكم عليها ككل إلا الآدمي
المتوفي سنة 987 م في كتابه النقدي(الموازنة) (44).
في
رواية رغبات تداخلت الأشكال مع المضامين, في قالب من الصياغة محكم النسيج
يصعب فيه الفصل بينهما, حتى يخيل للقارئ ان الأفكار هي المضامين تلك التي عناها
الكاتب و هو يحدثنا عن الانقلاب الفجائي
في شخصية الأبطال بعد بلوغ أحداث الرواية الى الذروة بعموم هموم تلك الشخصية و
شجونها, و الحق أقول و كما ذكرت سابقاََ في أكثر من موطن أن(
الروائي) ذو منهجية أملتها عليه طبيعة هذه
الرواية نفسها(45),و أنه مأخوذاً بأسلوب يميل الى الانطباع والتعليم و السخرية
و التوجيه و إعطاء كل شخصية من الشخصيات الرواية حقها و تبدو النزعة التراجيدية
المعهودة في أسلوب المؤلف في العديد من
قصصه القصيرة و رواياته و كان قد أكتسبها
من المجال الإنساني الارحب و هو المجال
العمل الاكاديمي الذي مارسه منذ ثمانية سنوات و مازال يزخر بالعطاء فيه.
و لعل أسامة و هو في ذروة اهتمامه بالمضمون
يعتمد إخراج عمله على التقنية العالية و
الباس عمله ثوب فني جميل و حليه لفظية مشعة آملاََ بالتواصل مع القارئ و مكاشفته
بما هو ضروري و صحيح ,ان المضمون عنده عين الواعية تمتد سلطتها بين وعين مهمين, أولا:
وعي الكاتب و هو يتخير أفكاره و يصوغها على اللفظ, وثانياََ: وعي القارئ وهو
يتلقاها.
و لعل أسامة في (ختام رغبات أظلت طريقها) كان
عنده قدر كبير من الحرس على تخير الفاظه و انتقاء عبارته, فالخاتمة عنده نتيجة تم إخضاعها
لنمو الفكرة و تكامل البناء الفني(46).
ان روح الرواية التي
تحت هذه الدراسة حاضرة من حيث أناقة اللفظ و
طراوة الأداء و حيوية الشكل. و الخاتمة و هي بوح أو اعتراف ذاتي يشوبه
التواضع الجم, يستعرض ذلك بضمير(الغائب)مرة و ضمير المتكلم وبالراوي العليم مرة
أخرى و ذلك أسلوب فني في عرض مادته(47) .
و ختاماَ أقول (هذا أقصى ما لديه و
اذا كان من مزيد فهو لديك قارئاََ و متابعاَ و ناقداََ اخر , والسلام عليكم و رحمة
الله و بركاته)
الهوامش
1) هدى
عبدالعزيز النقد الانطباعي ، مقالة منشودة ، موقع ديوان العربي اخر زيادة في للموقع
8/5/2014 ص/2
http//hada.A
2) محمد
مندور: النقد الأدبي ، نقلاً عن هدى عبدالعزيز ، المصدر السابق ص2
3) لانسون
منهج البحث في الأدب ، ط1 ن مطبعة الريان ، سعودية، 1988 ص33
4) عبدالقادر
الجرجاني : أسرار البلاغة ط2 ، مطبعة الأصدقاء ، 1981 ، ص71
5) المصدر
نفسه ، ص73
6) د. صالح
حديدي النقد الأدبي الحديث
7) علي
بن عبدالعزيز الجرجاني : الوساطة بين المتنبي و خصومة ، المصدر السابق ،ص74
8) بدوي
طبانة قضايا النقد الأدبي ، دار/6 ، المريح
، الرياض 1404 ، ص52
9) هدى
عبدالعزيز : النقد الانطباعي ، المصدر السابق ، ص3
10)
المصدر نفسه ، ص3
11)
المصدر نفسه ، ص3
12)
محمد مندور : النقد الأدبي ، مصدر السابق
ص73
13)
محمد مندور : المصدر السابق ،ص91
14)
هدا عبدالعزيز : المصدر السابق ، ص4
15)
أسامة محمد صادق ( رغبات أظلت طريقها) ص
16)
المصدر نفسه ص
17)
المصدر نفسه ص
18)
(16لانسون
: منهج البحث الأدبي ، المصدر السابق ، ص61
19)
د. عبد العباس عبد جاسم : المصدر السابق
، ص33
20)
أسامة محمد صادق ( رغبات أظلت طريقها)
مصدر سابق ص
21)
تركي عبدالغفور الراوي: المصدر السابق ،
ص34
22)
المصدر نفسه ص31
23)
أسامة محمد صادق ، رغبات أظلت طريقها ،
مصدر سابق ص
24)
نفس المصدر
25)
عبد العباس عبد الجاسم: قراءة في الأدب
العربي, محاضرة وزارة التربية, مطبعة ديالى,2012,ص132
26)
أسامة محمد صادق ، رغبات أظلت طريقها ،
رواية مصدر سابق ص
27)
كريم عبد الوائلي: قراءة نقدية في الرواية,
محاضرة وزارة التربية, مطبعة ديالى,2012,ص16
28)
أسامة محمد صادق ، رغبات أظلت طريقها ،
مصدر سابق ، ص
29)
المصدر نفسه ص
30)
تركي عبدالغفور الراوي: أعمدة النقد الأدبي,
دار الفارابي, بغداد, ب س ط,ص13
31)
عبد العباس عبد الجاسم: قراءة في الأدب
العربي,محاضراة وزارة التربية, مطبعة ديالى,2012,ص133
32)
كريم عبيد الوائلي: قراءة في شعر إيليا
ابو ماضي ط4,مطبعة محافظة ديالى,بغداد,2012,ص15
33)
المصدر نفسه,ص16
34)
عبد العباس عبد الجاسم: قراء ة , مطبعة
ديالى,بغداد,2012,ص132
35)
تركي عبدالغفور الراوي, مطبعة ديالى,بغداد,2012,ص131
36)
دانوتا نيتش زاكينتافا: الحصاد في الصيف,
الطبعة الرابعة,بغداد,1433 ه,2012م ص155
37)
علي عبدالحسين مخيف,المصدرالسابق,ص116
38)
هالة الدليمي ،
https://plus.google.com
39)
علي عبدالحسين مخيف، مصدر سابق , ص117
40)
المصدر نفسه,ص117
41)
عبدالله نديم: شمس المعارف,ط16,المركز التقني
للطباعة,بغداد,2014,ص77.
42)
عبدالله نديم: المصدر نفسه,ص77
43)
علوان عبد الحسن السلمان و آخرون,
المصدر السابق,ص78
44)
عبد العباس عبد الجاسم, المصدر السابق,ص33
45)
تركي عبدالغفور الراوي: المصدر السابق,ص34
46)
المصدر نفسه,ص35
47)
عناد غزوان: مكانه القصيدة العربية, مطبعة
ديالى,ط,بغداد,2012,ص44
تعليقات
إرسال تعليق